التسبيح من أهم العبادات التي قد يغفل عنها الكثيرون أو ينسون العمل بها خصوصا في أوقات الضيق والعسر الشديد. ففي أوقات الشدة يصبح الإنسان أحوج ما يكون الى التسبيح، لأن التسبيح يجعله يرجع الى ربّه ويتذكر آلاءه الكثيرة وينزّهه عما لا يليق به ولا يلقي اللوم على الله في ما حلّ به من بلاء، بل بعكسه يسبّح الله ويحمده. بهذا يقوّي التسبيح من علاقته بالله تعالى وإيمانه به وثقته بنصره، ويزيد من توكّله على الله تعالى القادر على كل شئ الذي بيده كشف الضر عن الإنسان مهما كان حجمه وأمده.
لذلك نرى أن الأنبياء عليهم السلام كانوا من أكثر الناس تمسّكاً بهذه العبادة المباركة. فنبي الله يونس خاض تجربة صعبة جدا ووقع في محنة عظيمة عندما ابتلعه الحوت ودخل في ظلمات عديدة. واذا تأملنا في وضعه عليه السلام في تلك الحالة نجد أنه من الصعب علينا أن نفهم كيف بقي حيّاً في بطن الحوت لفترة لا يعلمها الا الله وكيف تنفّس وماذا كان يأكل وكيف وأين كان ينام، وهل استطاع أن يرى ولو شيئا بسيطاً في تلك الظلمات المتداخلة، ظلمات البحر وظلمات بطن الحوت ومعدته وأحشاءه وغير ذلك! نحن بمجرد التفكير في هذه الأمور ربما نشعر أنه يستحيل على الإنسان أن يعيش في مثل تلك الظروف، لكن الله جلت قدرته الرحمن الرحيم القادر على كل شئ استطاع أن يحفظ حياة يونس عليه السلام. وبدوره استمر يونس عليه السلام خلال تلك المحنة في ذكر الله وتسبيحه بالذكر الذي ورد في القرآن الكريم، حيث كان يردد باستمرار “لا اله الا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين”.
وبشكل عام نلاحظ أنه في مرحلة الضيق الشديد يفقد الناس إيمانهم بالله تعالى، لكن نبي الله يونس داوم على تسبيح الله وأرانا كم يحتاج الإنسان الى أن يرجع الى ربه في مثل تلك المحن. كذلك نرى موقفاً مشابهاً من نبي الله موسى عليه السلام عندما شاهد فرعون خلفه والبحر أمامه، فجعل ذلك الموقف الرهيب قومه يشعرون باليأس من النصر حيث قالوا: إنّا لمدركون. أما موسى المؤمن المسبّح الواثق بالله وبنصره فقد قال “كلا إنّ معي ربي سيهدين”. فالتسبيح في وقت البلاء والشدة بالخصوص هو تربية للإنسان على حسن الظن بالله وتنزيهه عن كل ما لايليق به. فعندما يردد الإنسان هذه الكلمات “سبحان الله وبحمده” كأنه يقول أنا أرجع إليك يا ربي في كل خير وشر ولا ألقي اللوم عليك. فهذا التسبيح هو الذي يثقل الميزان يوم القيامة، وهو جزء من الإيمان بالله والإيمان بالقيم الالهية العظيمة. ذلك الإيمان هو الذي يجعل الإنسان يعيش مع الله ويكون الله معه في كل وقت وعلى كل حال.
انّ التسبيح ليس عملية ظن حسن بالله تعالى ونفي السوء عنه فحسب، بل إنه عملية توعوية وعلاجية للنفس الهلوعة، حيث أن التسبيح يفتح للإنسان أبواب الإطمئنان والأمل الكبير بمستقبل ملئ بالخير من خلال عملية التوكل الصادقة على الله تعالى. فمثلا في يوم أحد عندما أمر الرسول (ص) المقاتلين بأن لا يغادروا الجبل مهما حصل، لكنهم عصوا الرسول لأنهم لم يمتلكوا إيمانا قوياً يبعث فيهم الثقة بالنصر والثبات على الطريق. كذلك في حنين اغترّ المسلمون بكثرة عددهم وتصوروا أن العدد الكبير وحده سيساعدهم على التغلب على العدو، فاعتمدوا على كثرتهم ونسوا أن يستعينوا بالله القادر المقتدر الذي هو وحده الناصر والمعين. وعندها قالوا قولتهم الشهيرة: لن نُهزم من قلة، فجاءهم الرد القرآني”إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا”. فكان ذلك التصرف خلاف التسبيح لأن التسبيح الحقيقي هو تسبيح صادق نابع من القلب يجعل الإنسان مرتبطاً بالله تعالى في كل حالاته ويثق به مهما كانت الظروف.
وأيضاً في معركة الخندق يروى أنه عندما كان المسلمون يبنون الخندق كان النبي (ص) يضرب حجراً فقدحت منه نار فقال النبي “الله أكبر إني لأرى قصور فارس”. في ذلك الوقت كان وضع المدينة صعبا جداً، فقد كان المسلمون محاصرين وجيوش قريش تترصد لهم وكان الجو مشحون بالخوف والقلق. لهذا تعجب الناس مما قاله الرسول الأكرم ومن نظرته التفاؤلية للمستقبل. ومنهم من قال للرسول باستهزاء: نحن لا نأمن أن نخرج لقضاء حاجتنا وأنت تقول أننا سنفتح فارس. لو أردنا أن نحلّل نفسية هؤلاء الناس نجد أن سلوكهم ينمّ عن قلة الأيمان وضعف العزيمة، ففي حالة الضيق تلك لم يتوجهوا الى الله ويتمسكوا به ويثقوا بالمستقبل، ولهذا كان إيمانهم بالنصر ضعيفا.
اذن عملية التسبيح تجعل الإنسان مطمئناً وموقفه مع الله تعالى يكون موقفاً ثابتاً لا يتغير بتغير الحالات والظروف سواء وضَعه الله تعالى في وضع سيئ او جيد. والتسبيح أيضاً ينبئ عن ثبات الإيمان في نفس الإنسان فلا يكون الدين لعق على ألسنة الناس يحوطونه ويهتمون به اذا كان يريحهم ويقدم لهم ما يرغبون به، ولكنهم يتركونه اذا كانت هناك مضايقات ومصاعب. على سبيل المثال، اذا تعرض الإنسان الغير مسبِّح الى مصاعب وضغوط حين أدائه الصلاة فإنه سيختار أن يترك الصلاة ويتنازل عنها وعن غيرها من العبادات، فهذا العمل عكس التسبيح فهو يجعل موازين الإنسان خفيفة وليست ثقيلة، وقد تكون عاقبته النار بسبب ذلك. فالإيمان بالله تعالى يعني التجاء اليه في كل الظروف ثم إيمان بأهمية الإستمرارية على خط الإيمان الذي يعطي القوة للإنسان والذي هو من أهم أسباب النصر والفلاح في الدنيا والأخرة.
د. ايمان العطار