بسم الله الرحمن الرحيم
أقسم الله سبحانه و تعالى في سورة الفجر ب”ليال عشر” والمشهور هو انها ليالي أوّل ذي الحجّة، التي تشهد أكبر تجمع عبادي لمسلمي العالم من كافة أقطار الأرض، ففيها يحج الناس إلى بيت الله من جميع اقطار العالم و يجتمعوا ليذكروا الله كثيرا و يتوحدوا معا لغاية العبادة و التأمل و التقرب من الله عز و جل.
وقيل ايضاً هن ليالي بداية شهر محرم الحرام، او انها قد تكون ليالي آخر شهر رمضان، لوجود ليلة القدر فيها. وعلى أيّة حال، فالقَسَم بهذه الليالي يدلُّ على أهميتها الإستثنائية نسبة لبقية الليالي. روي عن النبي (ص) : “ما من أيامٍ العمل فيها أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من أيام هذه العشر”
وفي زمن النبي موسى (ع) جرت أحداث مهمة في مثل هذه الايام، فقد شهدت العشر الاوائل من شهر ذي الحجة صيام النبي موسى (ع) في حين غيابه عن قومه لميقات ربه ، و نزول الوحي عليه بتكليم الله عز و جل و نزول الألواح التي كان فيها هدى للناس وفيها التوراة.
سنلخص لكم بعض الأحداث من قصة النبي موسى (ع) و قومه التي دارت حول هذه الأيام العشر المباركة.
بعد أن نجا بني إسرائيل من فرعون و جنوده بمعجزة النبي موسى (ع)لإنشقاق البحر، تخلَّف بنو إسرائيل عن القتال في سبيل الله و إعانة النبي موسى (ع) على فتح الأرض المقدسه.
وقد واجه بنو إِسرائيل دعوة موسى (ع) للدخول إلى الأرض المقدسة مواجهة الضعفاء الجبناء، الجهلاء، الذين يتمنون أن تتحقق لهم الإِنتصارات في ظل المعاجز دون أن يبادروا بأنفسهم إلى بذل جهد في هذا المجال، وردَّ هؤلاء على طلب موسى (ع) بقولهم “…يا موسى إنّ فيها قوماً جبارين وإِنّا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإِن يخرجوا منها فإنا داخلون” (٢٢ المائدة). وتبيّن هذه الآية مدى التطاول و الإجتراء التي وصل إِليها بنو إِسرائيل في مخاطبة نبيّهم موسى (ع)، فهم بقولهم (لن) و(أبداً) أكدوا على رفضهم الدخول إلى الأرض المقدسة، كما أنّهم استخفوا بموسى (ع) ودعوته واستهزأوا به و بربه، بقولهم “إِذهب أنت وربك فقاتلا إِنّا ههنا قاعدون…” (٢٤ المائدة)
فعاقبهم الله بأن يتيهوا في الأرض أربعين سنة وان لا يدخلوا الأرض المقدسة. كانو كلما يمشون ليخرجوا من الأرض التي هم فيها بجوار مصر يجدون أنفسهم قد رجعوا لمقر بدايتهم فكانوا تائهيون في البراري و القفار. “قال فإِنّها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض…” (٢٦ المائدة)
كانوا بنو إسرائيل يعانون من الإِحساس باحتقار النفس والذل والضيعة والنقص من شدة كبت و طغيان فرعون عليهم لسنين طويلة، لذلك فهم لم يكونوا مستعدين لتطوير أو تطهير أنفسهم ولم يكونوا مستعدين لتلك القفزة المعنوية التي كانت ستهيئ لهم حياة جديدة مقرونة بالفخر والعز و القوة.
لذلك كان من الضروري أن يعاني بنو إِسرائيل من التيه والضياع في الصحراء لهذه المدة الطويلة، ليزول الجيل الضعيف العاجز منهم بشكل تدريجي وليحل محله جيل جديد في محيط الصحراء، وفي أحضان التعاليم الإِلهية، و بقيادة نبيٍ قويٍ حازم مثل النبي موسى (ع).
أمرهم الله أن ينزلوا عند الجانب الأيمن من جبل الطور ليمكثوا في تلك الارض. كانت هذه الأرض يابسة بدون زرع و لم يكن فيها مرصد ماء ليزرعوا فيها، فدعا موسى ربه ليخرج لهم ماءاً “وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ” (٦٠ البقرة).
وانزل الله لهم المن و السلوى ليأكلوا منه و انزل لهم الغمام ليظلل لهم و يقيهم الحر في أيام الصيف في تلك الصحراء. فالله قد أمَّن لهم طعامهم و مشربهم وآمنهم من فرعون وطلب منهم أن لا يطغوا. “يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ (٨٠ طه) كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ۖ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ (٨١ طه).
مع كل هذه النعم، استكبر بنو إسرائيل و ملُّوا من هذه النعم و طلبوا من النبي موسى(ع) أن يدعو الله ليخرج لهم طعام اخر “إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (٦١ البقرة).
طلب جماعة من بني إسرائيل من موسى (ع) بإلحاح وإصرار أن يَروا الله سبحانه، وأنّهم لن يؤمنوا به إذا لم يشاهدوه، “…فَقَدْ سَأَلُوا۟ مُوسَىٰٓ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوٓا۟ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ…” ( ١٥٣ النساء).
واعد الله نبيه موسى (ع) بلقاءٍ ليكلمه فيه، لاكن قبل هذا اللقاء امره أن يصوم ثلاثين ليلة. وقبل أن يذهب النبي أخبر قومه انه خلَّف عليهم أخاه هارون (ع) بغيابه إماما “…وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِع سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ” (١٤٢ الاعراف).
فصعد النبي موسى (ع) إلى جبل الطور و معه سبعين رجلاً من الصاحين من قومه “وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِّمِيقَـاتِنَا…” (الاعراف ١٥٥)
كان النبي (ع) يصوم في النهار و يجتهد بالعبادة في الليل وعندما أتم صيام شهر ذي القعدة بأكمله، زاده الله فوقها بعشر أُخر من شهر ذي الحجة فصارت له أربعين ليلة للتقرب إلى الله فيها “وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً…” (الاعراف ١٤٢)
رفع النبي موسى (ع) طلب القوم برؤية الله إليه سبحانه “وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا…” (الاعراف 143). فلمّا رأى موسى تحطيم الجبل و تسويته مع الأرض سقط مغمىً عليه من شدة رهبة هذا المشهد و من شدة الرعب “…فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ” (143 الاعراف).
و توضح لنا آية أخرى أن النبي كان بصحبة الرجال الصالحين من قومه عند طلبه لرؤيته فيقول النبي “أَتهلكنا” اي يتكلم بضمير الجماعه، “….. فَلَمَّآ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّاى أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ…” (الاعراف ١٥٥). وهنا يعترف النبي بأن طلب رؤية الله طلب تافه من فعل جماعة من السفهاء ولذلك يسأل الله التوبة.
و في أيام الميقات اعطى الله النبي موسى (ع) الألواح التي فيها هدى لبني اسرائيل، وقيل هي التوراة. أضاف تعالى واصفاً محتويات الألواح التي أنزلها على موسى (ع) بقوله “وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء…” (الاعراف ١٤٥). ثمّ أمره الله بأن يأخذ هذه التعاليم والأوامر ). مأخذ الجد، ويحرص عليها بقوة “…فخذها بقوّة…”( الاعراف ١٤٥
نرى في هذه القصه أحداث كبيرة في أيام مباركة اجتهد فيها النبي موسى (ع) بالتقرب إلى خالقه جل و علا. فالأيام العشر الأولى من شهر ذي الحجة أيام عظيمة ولها شأن كبير عند الله و تقع في شهر من الاشهر الحرم. و في هذا الشهر الشريف، بعد صيام النبي موسى لفترة طويلة، و اعتكافه عن المشاغل اليوميه ومشاكل و هموم القوم، لابد أن النبي (ع) وصل إلى رقي النفس و الروح و تحسين صلته مع الله. فلا شك أن بنو إسرائيل سببوا للنبي موسى (ع) تعب نفسي وإرهاق و مشقة لكثرة تماطلهم و وقاحتهم و ضعف نفوسهم و كانت من حكمته سبحانه و تعالى أن يرقي روح النبي (ع) و يبث فيها الطمأنينه والراحه قبل أن ينزل عليه التوراة. لأن المرحلة هذه من رسالة النبي فيها اقناع قومه بالعمل بتعاليم التوراة ولا شك انَّ لهذه الدعوة ثقل و عناء لا يتحمله إلى الذي توكل بكل جوارحه على الحي القيوم واستعان بنصرته و عونه. كان من المهم ان يجعل الله لنبيه فرصة للتركيز على رفع نفسه الروحانية فأتاح له المجال للتقرب بفضل الصوم و الاعتكاف و العبادة. ولعله ذكر الله في كتابه الليالي دون الأيام “وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة”(البقرة ٥١) لأن الميقات كان للتقرب إلى الله سبحانه ومناجاته وذكره، وذلك أخص بالليل وأنسب لما فيه من اجتماع الحواس عن التفرق وزيادة تهيؤ النفس للأنس الرباني دون ازعاج و انشغال كما كاد أن يكون في النهار. وهذا كما يشير إلى مثله قوله تعالى “يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا …..إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا …” (المزمل ٧). فهنا الله سبحانه و تعالى يأمر النبي محمد (ص) بقيام الليل ليستفيد لتلقي القرآن الكريم و ليتهيأ لكرامة القرب و شرف الحضور بكلام الله، و في نهاية سورة المزمل يقول “إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا” (المزمل ١٩). فقيام الليل هو السبيل المؤدي لله سبحانه و تعالى و الوصول إلى المقام المحمود كما ورد في سورة الإسراء ايه ٧٩ “و من الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعدك ربك مقاماً محمودا”
المصادر
١.النبي موسى. الشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
٢.الميزان في تفسير القرآن.السيد محمد حسين الطباطبائي
٣. الامثل في تفسير القرآن. الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
٤. مجمع البيان في تفسير القرآن. الفضل بن الحسين الطبرسي
زينة رياض عبد الرضا