بِسْم الله الرحمن الرحيم
بعد الصلاة والسلام على محمد وآل محمد
الفهم السطحي التقليدي لمسألة تعدد الزوجات: اذا سألت عن موضوع تعدد الزوجات يأتيك الجواب مباشرةً إن رسول الله (ص) توفي عن تسع زوجات! ويستشهد مؤيدوا هذا الموضوع بالآية الكريمة “ولكم في رسول الله أسوة حسنة” (الأحزاب 21) لأثبات هذا الموضوع. وعندما ننظر في سيرة الامام علي والأئمة الاطهار عليهم السلام فنراها مشابهة لذلك.
* سؤال: هل كان تعدد الزوجات في ايّام قبل الاسلام؟ الجواب: نعم وبشكل واسع النطاق، وهو أصل من أصول الفكر العربي.
* وهل له جذور يهودية او مسيحية؟ الجواب: نعم، لكن نحن الآن تركيزنا على الفكر والعقل والسلوك العربي عند الرجل العربي مابعد الاسلام.
* سؤال: هل تعدد الزوجات مستحب كما الزواج الاول مستحب؟ كما قال الرسول الأعظم (ص) “النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني” كذلك هو التعدد، ام هو ممكن ضمن ظروف خاصة؟
* سؤال اخر أيضاً: هل هناك شروط لابد ان تتوفر في الزوج أو لا؟ يعني هل من حقه أن يختار أن يتزوج بأمرأة أخرى متى يشاء أو حسب مزاجه؟ وماهو نوع هذه الشروط؟ ومن الذي يضع هذه الشروط؟هل الزوج هو الذي يحددها أم أن القرار بيد الحاكم الشرعي؟
عندما نسأل الرجل هل لديك الأستطاعة لتقوم بذلك وهل لديك إمكانات مادية؟ يقول: نعم. وهل لك القدرة على إدارة العائلة الثانية؟ فالأستطاعة لا تقتصر على الأستطاعة المادية! هل تستطيع أدارة شؤون العائلة في ظروف الحياة الصعبة والمعقدة ومشاكل الحياة الاجتماعية؟ يقول نعم. لكن فِي آخر المطاف هل يجد نفسه مستطيعا أو لا؟ ربما يكتشف انها كانت مجرد نزوة ورغبة طارئة.
والسؤال الأهم: هل ان هذا القرار شخصي؟ أي عندما تحصل مشاكل هل تؤثر على الشخص وحده أم لها تأثيرعلى الواقع الاجتماعي؟ لأن قضية الاسرة مرتبطة بالنظام الاجتماعي. وهل يجب ان تكون جهة قانونية هي التي تحدد بأن هذا الشخص مؤهل للتعدد أم لا؟
نرى الآن في الأنظمة التي تحترم الانسانية والتي تحترم نفسها، اذا تقدم زوجان الى مركز أيتام لتبني طفل ليس له أب ولا أم، نراهم ينظرون الى ظروف العائلة من جميع الجهات، وهل بأستطاعتهم إعالة هذا الطفل ام لا، فهم ينظرون الى الجانب المادي والى حالتهم النفسية والاجتماعية الى جميع ظروفهم حتى تتم الموافقة لتسليمهم الطفل من مركز الأيتام. فمابالكم اذا أراد انسان ان يديرعائلتين وثلاثة وأربع؟
اذا توقفنا قليلا عند الآية ٣ من سورة النساء ومسألة تعدد الزوجات في القرآن الكريم، هل يوجد دليل على التعدد ام ليس له دليل؟ قال تعالى “وإن خفتم ألّا تقسطوا في اليتامى فَانكِحُوا ماطاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ماملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا”. هكذا فهم المفسرون لهذه الآية المباركة أنها دليل على جواز التعدد، وعادة الناس يقولون إن الله سبحانه وتعالى قد حلّل الزواج بأربعة.
الناس دائماً يذكرون الجملة الوسطية من الآية ولا يذكرون بدايتها ولا نهايتها ولا يربطون بين أجزاء الآية وأجزاء السورة المباركة، وهذا هو المتعارف عند الكثير. ولأجل الفهم الصحيح للآية يجب أن ندرس كل أجزائها. فالآية المباركة فيها شرط وفيها جزاء. الشرط هو “وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى” فهذه شرطية وجزاء الشرط “فَانكِحُوا”. كذلك فأن الآية التي قبلها تتكلم عن أموال اليتامى ولا علاقة لها بالنكاح: “وآتوا اليتامى اموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم الى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا” (النساء 2). وقد جاء فِي الآية ٦ من نفس السورة: “وابتلوا اليتامى حتى اذا بلغوا النكاح فإن آنَسْتُم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم”
والآن لنسأل أنفسنا، على ماذا يركزالقرآن الكريم من خلال هذه السلسلة من الآيات المباركة، هل يركزعلى التعدد في الزوجات ام على اليتامى وأموالهم وحقوقهم والقسط معهم؟ لأن الجزء الذي سبق جزء التعدد مرتبط باليتامى “وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى”، كذلك الآيات التي بعدها تركز على الأموال وعلى اليتامى وليس على النكاح! فأذا درسنا الآية بكامل أجزائها يتبين أن النص القرآني يشترط أنكم اذا خفتم ان لاتحققوا القسط في اليتامى بسبب صعوبة توصيل حاجاتهم ودخول بيوتهم بغير وجه شرعي، فاذا توفر هذا الشرط، يتحقق الجزاء، فإذهبوا وتزوجوا بإمهات اليتامى.
طبعا هذه من اعقد المسائل في علم التفسير. الكثير من المفسرين اعتمدوا على رواية تقول أن القصد من الآية “إن خفتم الا تقسطوا في اليتامى” أي نكاح اليتيمات من الإناث فإن خفتم ألا تقسطوا فاتروكهن أي اتركوا اليتيمات وتزوجوا بغير اليتيمات! لكن لنا أن نسأل: يقسطوا في ماذا ويعدلوا في ماذا؟ وهل اليتامى فقط إناث، ألا يوجد يتامى ذكور في المجتمع؟ ألآية تقول “يتامى” أي تشمل الذكر والأنثى، وهذه النقطة تدل إن الآية تركز على اليتامى من الذكر والأنثى.
هل قالت الآية: ان خفتم الا تقسطوا في النكاح! أم قالت “في اليتامى” واليتامى في اللغة مشتركة بين الذكر والأنثى. وأيضا فأن سياق الآيات وترابطها هو حجة، فالواجب ان لا نأخذ جزءا من الآية بل نفهم الآية بكل أجزائها. وللتوضيح أكثر، اذا كان عندنا بناء متكامل وجاهز فذلك لأن أجزاؤه مترابطة، اما اذا كان وجدنا حجرا متناثرا هنا وحديدا هناك وجصا في مكان آخر فنقول انه بناء غير محكم. وبما أن القرآن بناء محكم وآياته مترابطة فيجب أن نفهم الآيات من خلال ترابطها وموقعها في سياق الآيات الأخرى، وهذا هو الأصل في العلوم القرآنية.
إذا نظرنا الى الآية الاولى من السورة في سورة النساء: “ياأيها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا ً كثيراً ونساءاً”. هذه الآية تقول لنا: أيها الناس أنتم من حقيقة واحدة. ماهي هذه الحقيقة؟ هي ذكر وأنثى من نفس واحدة، فهذه النفس الواحدة هي ذكر وأنثى. ولكن لان المنطق التفسيري ذكوري والنموذج ذكوري فافترض أن النفس الواحدة هي الذكر وزوجها يعني الأنثى مع إن الآية ليس فيها فرق، بل تنطبق على الاثنين وتشمل الاثنين ليس فيها شيء يدل على أن النفس الواحدة هو الذكر، بل أن خلقكم من حقيقة واحدة أي من نفس واحدة كما ذكرنا.
نعود الى موضوعنا: اذا نظرنا الى منطقتنا بصورة خاصة والى العالم بصورة عامة، نرى في العراق، اليمن، سوريا والى اخره، كم يوجد من الأيتام وكم يوجد من الارامل! هل المشكلة مشكلة أيتام فقط او هي أيضا مشكلة الارامل أمهات هؤلاء الأيتام؟ بالطبع ان أمهات الأيتام يعانين كثيرا. هنا نجد القرآن الكريم وقف عند هذه المشكلة البشرية لحفظ النظام الاجتماعي. اذا لم ينتظم وضع الأيتام واذا لم يكن هناك من يهتم بأمر الارامل والأيتام بصورة كاملة يتفجر النظام الاجتماعي.
ولهذا دخل القرآن على الخط وأمر برعاية عوائل اليتامى من جميع الجوانب. هل أن مسؤولية المجتمع تجاه اليتامى الأموال فقط ؟ أم يحتاجون الى تربية وثقافة ودراسة وجامعات ورعاية وضعهم النفسي وحفظ اموالهم حتى لا يستغلوا من قبل الآخرين.
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى”، “ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب” فالحديث كله مرتبط باليتامى ولا يرتبط بالنكاح أو اليتيمات. لكن لماذا مباشرة هذه الآية يستدلون بها على تعدد الزوجات! اذا دققنا في الموضوع نجد الترابط والتركيزعلى الارامل والأيتام، حيث لم تقل الآية “انكحوا اليتيمات” وانما قالت “من النساء” اي امهات الأيتام اذهبوا وتزوجوا منهن ولا تنظروا ان هذه المرأة كبيرة وهذه صغيرة وهذه جميلة، وهذا الذي كان يفعله رسول الله صلوات الله عليه والأئمة الاطهار، حيث كانوا يسعون في حل مشاكل اجتماعية من خلال الزواج المتعدد
إذاً الآية جاءت مع شروطها، ولكن في ثقافتنا لايوجد من يطبق هذه الشروط. اصلا موضوع الآية كله تغيّر وصار على التعدد وليس على أموال اليتامى. بالنسبة للجزء الآخر من الآية ” فان خفتم ان لا تعدلوا فواحدة” فذلك يعني الأفضل واحدة. أما الموروث الاجتماعي يربط القضية بالنساء ويفسر بأن يكون عادلا يعني ان يعدل بين الزوجات في المبيت، وهؤلاء يقولون انهم معذورون اذا لم يعدلوا، لأن الله قال: “ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم”. وفيما عدا المبيت أحيانا يفسروهاعلى المحبة والمودة وكل واحد حسب استطاعته ويقولون ان رب العالمين يعذرنا اذا لم نعدل في الحب.
اليس القرآن نور وبيان وتبيان وهدى! أن هذه الآية “وان خفتم الا تقسطوا في اليتامى” يعني أن الأنسان يجب أن يقسط في التعامل مع اليتامى وأموالهم. اذا تزوج بام الأيتام فالمفروض أن يدير أمور الأولاد ولكن هناك من الأزواج من يريد ان يفصل الأولاد عن امهم فتلك مصيبة اكبر. الآن هذا الذي يحصل! هؤلاء الأيتام فقدوا الاب والآن يفقدون الام، وهذا لا يجوزه الشارع المقدس لأنه يدمر الأيتام بدلا من مساعدتهم. اما اذا كانت اهداف الشخص نبيلة ويريد ان يدخل حياتهم من اجل المساعدة عن قرب وتربيتهم فهذا الحل الأمثل لحفظ الام وحفظ الأولاد، وهو ينسجم مع تعليمات هذه الآيات الكريمة. اذن الآيات تركز على اليتامى بشكل عام، وأن كلمة النساء تشير الى الارامل امهات اليتامى.
النقطة الثانية التي يجب ان نشير اليها ان الزوج لا يمكنه ان يتصرف في أموال اليتامى فلا يمكنه ان يصرف منها عليهم حتى لو تزوج بأمهم، وليس له اي حق ان يتصرف في هذه الأموال، بل لابد ان تكون محفوظة لهم حتى يبلغوا. تقول الآية المباركة “فأن آنستم منهم رشدا فادفعوا اليهم اموالهم” نلاحظ انه حتى هنا الآية تشمل الإناث والذكور، فقالت “ادفعوا لهم اموالهم” ولم تقل لهن، وهذا ينقض مافسره البعض على أن المال المذكوريقصد به الصداق أي صداق اليتيمات. المهم يجب ان لا يتصرف الزوج في أموال اليتامى الى أن يكبروا فيدفعها لهم. أما اذا كان قد صرف هذه الاموال في صغرهم فماذا يدفع لهم عندما يكبرون! لهذا كان التوجيه القرآني “فادفعوا اليهم أموالهم” (النساء 5). هذا يعني أنه اذا تزوج أم الأيتام يجب ان يصرف عليهم من ماله الخاص.
فقوله تعالى “ذلك أدنى الا تعولوا” يعني أنكم يجب أن تكون لديكم الأمكانية المادية للصرف على عوائلكم حتى لا يصيبكم الفقر، وهذا الجزء مرتبط أيضاً بالنفقة و الفقر المالي وهذا معناه ان الآية من بدايتها الى نهايتها تخص أموال اليتامى وحقوقهم. وبالنسبة للجزء الآخرمن الآية ” فأن خفتم ألا تعدلوا فواحدة” فمعناها أن لا يأخذ الشخص من حق هذه العائلة ويدفع الى عائلته الأخرى. الآية تقول اتركوا الزواج المتعدد اذا لم تكن
لديكم امكانية. اذهبوا وانظروا الى أولئك الذين ليس لديهم القدرة المالية فعاشوا في ضيق، وهذا الذي يحصل الآن المجتمع. قالت الآية صريحة “فإن خفتم الا تعدلوا فواحدة”، أي وان خفتم الّا تقسطوا في إدارة شؤن اليتامى. اليتيم دائماً إنسان حساس مجروح في فقد الاب، لكن البعض يحقره أو يقلل من احترامه، مما يجعله يصبح إنسانا حاقدا على المجتمع، و يتحول الى إنسان خطير. الأنظمة المتحضرة تنظر الى نفسية الطفل اليتيم وكيف يتعاملون معه حتى يكون إنسانا معطاءا في الحياة كيف يبنون شخصيته كيف تكون عقيدته. والقرآن الكريم يضم في طياته نظاما متينا للتعامل مع الأيتام حتى ينشأوا نشأة صحيحة ويصيروا افرادا صالحين في المجتمع.
نستنتج من هذا أن الآية 3 من سورة النساء التي هي الآية الوحيدة التي ذكرت الزواج المتعدد، انما ذكرته في سياق رعاية أموال الأيتام وتأمين حقوقهم وانشاء مجتمع متوازن صالح. فالزواج في هذه الحالة لغاية أنسانية نبيلة وليس لغايات شخصية، وهناك شروط معينة لتحقق الزواج المتعدد يقررها الحاكم الشرعي وليس الأفراد. كذلك نستنتج أن الفهم المشهور لبعض الآيات القرآنية ليس بالضرورة أن يكون هو الفهم الصحيح لها، ويجب أن لانتسرع في الأستشهاد بآيات القرآن أو بجزء منها لأجل اثبات رأينا، دون التدقيق في فهم تلك الآية وسياقها ضمن السور القرآنية المباركة، مما قد يغير المعنى المشهور بالكامل.
والى هنا ننتهي والحمد لله رب العالمين
ملاحظة: هذا الموضوع جزء من محاضرات فقه المرأة للسيد كمال الحيدري
من حلقة ٤٠-٤٥ لمن يحب أن يراجعها يضغط هنا
بقلم كوثر الصافي
نقحت من قبل الدكتورة أم نبأ