الأمام الحسين ضمير الأمة ومسؤولية المستقبل

كان الإمام الحسين عليه السلام ولا يزال ضمير هذه الامة؛ فهو في العقل مصباح هدى، وهو في العاطفة سفينة نجاة، وهو عند المستضعف كرامة ناهضة، وهو عند المظلوم نداء ثائر، وهو على الطغاة سوط لاهب، وعلى الخانعين يقظة تأنيب ..

انه نهج متميز تلجأ اليه الأمة عندما تضيق بها مذاهب الحياة ، وتحيط بها اسباب الفناء .

واذا كانت الامة الاسلامية قد تحدت عبر تاريخها المديد عاصفة الحروب الصليبية بشموخ، واحتوت اعصار الغزو التتري بصبر وصمود، واذا كانت الأمة لاتزال تقاوم عاصفة الهجمة الصليبية الغربية الجديدة ورأس حربتها دويلة الصهاينة، واذا كانت قد احتوت هجمات الشرق الكافر، فذلك كله لان الأمة تملك ضميرا حيا نابعا من قيم القرآن الحكيم، وتاريخ الجهاد الحافل، وفي طليعته تاريخ نهضة السبط الشهيد عليه السلام.

إلا ان هذا الضمير الناهض لم يستنفد كل طاقاته، وهذه الروح الكبيرة لم يستفد من كل قدراتها.. ذلك لأن الطغاة والمنابر التابعة لهم والاقلام السائرة في ركبهم، وعلماء السوء الذين يكتمون الحق.. هؤلاء جميعا حاولوا ابعاد هذا الضمير النابض وتلك الروح الثائرة عن حوادث الحياة اليومية، وعن مشاكل الامة المعاشة.

وعلى العلماء الربانيين وقيادات الساحة الأمناء ، والاقلام الحرة، والمنابر المسؤولة، أن تتحمل واجبها التاريخي في اعادة الامة الى خط السبط الشهيد، وهو خط الاسلام الحق، خط القرآن المجيد، الذي من أجله كان قيام السبط، ومن أجله كانت شهادته.

دروس عاشوراء

ان أمتنا بحاجة الى ان تتعلم دروس عاشوراء في الآفاق التالية :

ألف: عليها ان تتعلم ان كل فرد من ابنائها مسؤول عن واقعه وواقع مجتمعه. وان اللامسؤولية واللامبالاة والكسل والفشل والثقافة التبريرية، هو -بالضبط- ذلك السلوك السلبي الذي يريده لها الظلمة والجبابرة.

يجب ان نثقف ابناءنا على العطاء، وعلى الاجتهاد من أجل التقدم، والجهاد من أجل الكرامة، والأستشهاد في سبيل الله. وأية ثقافة تشجع على الخنوع والاستسلام والشك والشرك والحمية وإثارة العصبيات والتمنيات، فانها ثقافة باطلة يرفضها ضمير الامة، لانها تساهم في انتشار الظلم، واشاعة الفحشاء والمنكر .

باء: ان الأمة الأسلامية تختزن -في وعيها وضميرها الباطن- ينابيع العطاء ومعادن الصبر واصول النصر وقيم النهضة، ولكنها بحاجة الى رجال مجتهدين مخلصين شجعان واكفاء لقيادتها.

من هنا كان بناء الطليعة وتنمية كفاءاتها ورعايتها، من ابرز فرائض الامة، والعاملين الصادقين من ابنائها .

جيم: ان على الامة وقيادتها والمخلصين من ابنائها البررة، ان يحولوا التجمعات الدينية والأسرية والعشائرية والاجتماعية الى تجمعات فاعلة، من اجل استعادة الحقوق المستلبة، والكرامة الضائعة، والحرية المغتالة، والمساهمة في كافة الحقول، وممارسة كامل الدور الاسلامي والانساني المطلوب. والسبيل المناسب لظروفنا الراهنة والذي ينتهي باذن الله تعالى الى تحقيق هذه الاهداف السامية يتلخص في الامور التالية:

أولاً: العودة الى القرآن

الاستلهام المباشر من كتاب ربنا الذي فيه حكم ما بيننا، ودواء امراضنا، وشفاء قلوبنا، واصلاح ما فسد من اوضاعنا. ان الحجب المفروضة علينا والتي منعتنا من تلاوة القرآن حق تلاوته، هي المسؤولة عن كل مآسينا.

ان الخطيب الذي يذكّر الناس بكتاب ربهم، والعالم الذي يوجههم الى التدبر في آياته المباركات، والقائد الذي يأمر اتباعه بمداومة العيش مع الله وكتابه.. هم جميعا يعطون للناس مفاتيح العلم، واصول الحكمة، ويأخذون بأيديهم الى معدن المعرفة، والى نبع الايمان وضياء اليقين..

 ثانياً: الرؤية السليمة

وبالتدبر في كتاب ربنا، وبدراسة سنة النبي وأهل بيته عليه وعليهم الصلاة والسلام، وبالدراسة الواعية للتاريخ الغابر وللحوادث الحاضرة، وبتحليل الاخبار تحليلاً منهجياً دقيقاً، بعيداً عن العجلة والعاطفة والأحكام المطلقة والمسبقة.. بكل ذلك سيتجلى مجتمعنا برؤية سياسية وحضارية سليمة، ومعرفة شاملة بالزمان، وبالتالي بالتحرك في الاتجاه الصحيح بعيدا عن الفوضى والغوغاء والعواطف المشبوبة.

ثالثاً: حصن الايمان

ان على كل واحد منا ان يتحصن بحصن الايمان، وذلك بالانتماء الى هيئة دينية، او تجمع رسالي، او جمعية انسانية، وبالتالي لايبقى وحده في غمرات البلاء وموجات التحديات. ومن خلال هذا الانتماء الذي يقصد به رضوان الله، يعمل بالواجبات الملقاة عليه من التعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، والتولي لأولياء الله، والتبري من اعداء الله، والاهتمام بشؤون المسلمين، والقيام بواجبات الراعي تجاه رعيته تحقيقا لقول الرسول صلى الله عليه وآله: “من اصبح لا يهتمُّ بأُمور المسلمين فليس بمسلم”، وقوله صلى الله عليه وآله: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”.

مسؤوليات اجتماعية:

إننا سنوقف امام رب العزة، ويسألنا خالقنا البصير العليم، عن واجباتنا الاجتماعية، كما يسألنا عن الصلاة والصيام، وهناك لا تنفعنا التبريرات الواهية التي يتشبث بها البعض للتحلل من هذه المنظومة الواسعة والهامة من الواجبات الشرعية.

ان على كل واحد منا ان يحاسب نفسه كل يوم، عما قام به في سبيل الله، ومن اجل نجاة امته من ويلات التخلف ومن مصادرة الحقوق ومن تضييع الكرامة والحرية.. ألا نفكر اي معنى يبقى لحياتنا ان لم نؤد أية مسؤولية اجتماعية؟ فهل خلقنا لأجل الكدح اليومي من أجل الخبز الذي نأكله مغموساً بالدمع والدم، بالذل والهوان، بالسكوت عن المجرمين، والخنوع للجبارين؟ أفلا نتعلم من السبط الشهيد الذي اتخذناه إماماً وقدوة ومناراً، والذي نرجو أن يكون شفيعنا يوم القيامة، أفلا نتعلم كيف نحيا احراراً أو نموت كراماً ؟؟

أن صوت الامام الحسين عليه السلام الذي يجري حبه في عروقنا مجرى الدم؛ ان صوته لايزال يهز ضمير كل ذي ضمير:

“الا وان الدعي ابن الدعي قد ركّز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى لنا الله ذلك ورسوله والمؤمنون وحجورٌ طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام…”(19).

بلى، سنبقى باذن الله صادقين لذلك الامام الغريب الذي نادى في صحراء الطف بنا وبكل اذن واعية:

“أما من ناصرٍ ينصرنا” ، واننا نقول وبكل شجاعة: نحن انصار الله، وكلنا عطاء، وسوف نقوم بكل واجباتنا الاجتماعية متوكلين على الله الجبار الذي أمرنا بالعمل ووعدنا النصر حيث قال سبحانه: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة/105)

وقال عز وجل: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد/7)

الامام الحسين آية العقل والعاطفة

 

تؤكد الأحاديث الشريفة على الترابط القوي بين العقل والعاطفة وضرورة التوازن في استعمالهما عند احياء ذكرى الثورة الحسينية. ومن جملة تلكم الأحاديث قول الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله بأن الحسين: “مصباح هدى وسفينة نجاة” . ولكي نكون بمستوى المسؤولية الدينية والحضارية، لابد لنا من التدبر والإحاطة بأبعاد هذا الحديث. فهو وغيره مما فاض على لسان سيد المرسلين وأهل بيته الطيبين الطاهرين عليهم السلام

ومن هنا ؛ تنبغي الاشارة الى حقيقة أن الانسان يتركب من بعدين أساسيين، ولا غنى لاحدهما عن الآخر مطلقاً؛ البعد الأول هو البعد العاطفي، والثاني هو بعد الفكر والعقل والبصيرة. والبعد الأول يحتل موقعاً من الانسان أشبه ما يكون بموقع الوقود من السيارة، حيث لايعقل مطلقاً أية حركة لهذا المصنوع البشري دون امتلاكه للطاقة. وبمعنى آخر؛ تكون السيارة غير ذات قيمة فيما لو افتقرت الى الوقود ، بغض النظر عن كون هذه السيارة ذات تكنولوجيا عالية أو هابطة .

إذن فالعاطفة في المثالين المذكورين هي المحرك، وهي الدافع الذي على أساسه يقوم أهم ركن في بناء العائلة المتفاعلة. ثم هناك الجانب العقلي في حركة الناس، ومن دون العقل ستفقد العاطفة مصداقيتها

وما يهمنا في هذا الجانب هو التأكيد على أن الامام الحسين عليه السلام هو الذي يوفر للأمة الاسلامية حاجتها العقلية كما وفّر لها حاجتها العاطفية. فالحسين عليه السلام كما اصبح للمسلمين بمثابة نقطة الرجاء والعاطفة بنصّ الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله حيث وصفه بـ (سفينة النجاة) التي تؤدي دور المنقذ أثناء وبعد الأمواج والعواصف والدوّامات، فهو -أيضاً- بشعاراته ومنجزاته الدينية أصبح (مصباح الهدى) بالنسبة للمؤمنين الذين تعترض طريقهم الانحرافات الفكرية والسياسية

فالحسين عليه السلام قتيل العبرات؛ بمعنى أنه قد قتل لكي يوفر في الأمة المسلمة الدموع، لإن الانسان المسلم حينما تدمع عينه ويخشع قلبه سيكون قابلاً لاستلهام المعاني الحية لتعاليم الدين الحضارية، وسيكون مثله مثل الأرض القابلة لامتصاص غيث السماء حيث تهتز وتربو، دون الأرض الصلدة التي لا تستجيب لنداء المطر ورسالته الداعية الى الانبات

فعندما يبكي المرء ويخشع قلبه تأخذ الآيات القرآنية الكريمة موقعها منه، وتجد استجابة طيبة لديه من أجل الاعتقاد والتمسك بها وتطبيقها. ولكن الانسان الأبله أو المستهزئ الذي لاتربطه أية عاطفة بالآيات السماوية، لن ينتفع بها مهما كان تالياً لها. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله: “أين الله؟ فقال: عند المنكسرة قلوبهم”

وهنا يجب أن نلتفت الى أن المصباح هو الذي يشع بالنور، والهدى هو الذي يهدي الانسان الى الطريق المستقيم. وإننا كأمة مسلمة بعيدون عن الإمام الحسين عليه السلام من هذه الناحية، فنحن نعيش مع سيد الشهداء في عواطفه ومأساته فقط مع بالغ الأسف. إن تاريخ كربلاء ينقل لنا بأن الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه استمهلوا الأعداء سواد ليلة عاشوراء، ولم يكن طلب الفرصة هذا ناتجاً عن خوف من الموت أو الاستشهاد، حيث أن هذا الركب الشجاع لم يقدم الى ارض كربلاء إلاّ وكان عارفاً بما سيؤول اليه مصيره مسبقاً

ان سبب الطلب المشار اليه الرغبة في تجديد العهد بكتاب الله تبارك وتعالى، فالحسين عليه السلام كان القرآن الناطق. ومن جانبنا نحن المسلمين، كلما كان التصاقنا بالقرآن الكريم وتعاليمه شديداً، كلما كان اقترابنا للحسين عليه السلام شديداً أيضاً، والعكس هو الصحيح. فالطرفان يعبران عن إرادة إلهية تتجلى في ضرورة إنقاذ الانسان نفسه من الوساوس والانحرافات .

فلنجعل العاطفة في خدمة العقل، والحب في خدمة الحق، والبكاء طريقا لاصلاح النفس، ونجعل المجالس مدارس للفقه الديني، والمواكب شعائر للدفاع عن المؤمنين من موالي السبط الشهيد والمظلومين في كل مكان.. وإلا فان سيل العاطفة المتدفّقة سيذهب سدى.

ملاحظة: هذه مقتطفات من كتاب “الأمام الحسين عليه السلام قدوة الصديقين”

 

تأليف السيد محمد تقي المدرسي

هذه المقالة قدمتها احدى الأخوات في جلسة الأربعاء 12/09/2018

Leave a Reply