بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيل السيد محمد حسين فضل الله عن هذه الدنيا الى جنان الخلد أحببت أن أكتب قصتي مع السيد رحمه الله. رغم أني لم ألتقي بالسيد شخصيا لكن كانت لي لقاءات كثيرة مع فكره وعلمه وشخصيته الرائدة. في بغداد كانت ولادتي ونشأتي وأول مراحل انفتاحي على العالم. وكسائر العوائل الشيعية كنا في محرم نحضر الكثير من المجالس الحسينية ونقيم مجلسا في بيتنا في شهر صفر. كان والدي رحمه الله يحب القراءة كثيرا ولديه مكتبة عامرة كانت لي مثل الدوحة الخضراء اقطف من ثمارها ما أشاء خصوصاً في أوقات العطلة. كنت ولا أزال أكنّ خالص الاحترام والتقدير لكلّ من يكتب كتاباً أتعلم منه شيئا فأشعر أنه استاذي وله الفضل عليّ. قرأتُ للعديد من المؤلفين المبدعين وتعلمت منهم الكثير جزاهم الله خيرا، ومن ضمن الكتب التي قرأتها كتاب اسمه ‘مفاهيم اسلامية عامة’ تأليف السيد محمد حسين فضل الله، فكانت هذه أول فرصة لي للتعرف على السيد وفكره.
وبسبب ظروف العراق وتعسف الطغاة قبيل سبعينيات القرن العشرين وبعدها اضطر الكثير من العلماء الى الهجرة خارج العراق وبضمنهم السيد فضل الله. وبسبب ظروف التعتيم الاعلامي وعدم وجود وسائل التواصل والانترنت لم نكن نعلم بمصير من ترك العراق. في تلك الفترة كنت أقلد السيد الشهيد محمد باقر الصدر، وبعد استشهاده عام ١٤٠٠هجرية/ ١٩٨٠ كان يجب عليّ أن آخذ الأذن من مرجع حي للبقاء على تقليد السيد الصدر، فحصلت على الموافقة من السيد الخوئي وبعض العلماء الأحياء في وقتها. بعد وفاة السيد الخوئي وعندما كنت خارج العراق، أرسلت الى السيد فضل الله لطلب الأذن فكان جوابه جميل أطرى على السيد الصدر كثيرا (مع الاسف لم أحتفظ بنسخة جوابه). أعجبت كثيرا بأسلوب السيد فضل الله وكلماته الأبوية، وكانت هذه المرة الثانية التي تعرفت من خلالها على السيد.
بعدها انشغلنا بمصاعب الهجرة وتربية الاولاد، وفجأة بدأت حملات الهجوم القاسية على السيد فضل الله وفكره. هذه الهجمات أربكتني كثيرا وكان من الصعب عليّ تصديقها لأني قرأت السيد في كتابه وفي رسالته. سألتُ من حولي عن المشكلة فقالوا ان السيد أنكر كسر ضلع الزهراء عليها السلام. ولأني لا أحب أن أبني مواقفي على آراء غيري ولأن الحقائق يمكن أن تضيع وتحرّف اذا تناقلت بين الألسنة، قررت أن أبحث وأستقصي عن الموضوع وأقرأ كتابه ‘الزهراء القدوة’ لأكتشف الحقيقة بنفسي. وبعد أن قرأتُ الكتاب كاملا لم أستطع ايجاد أي كلام غير علمي وغير منطقي. وبالنسبة لمسألة الضلع فقد قال السيد:
“هناك بعض الحوادث التي تعرضت لها مما لم تتأكد لنا بشكل قاطع وجازم كما في مسألة حرق الدار فعلا وكسر الضلع … ولذا فقد أثرنا بعض الأستفهامات كما أثارها علماؤنا السابقين رضوان الله عليهم كالشيخ المفيد … ولكننا لم نصل الى حد النفي لهذه الحوادث … لأن النفي يحتاج الى دليل كما أن الأثبات يحتاج الى دليل” (صفحة ١٠٩).
هذا الأسلوب العلمي الرصين يدل على أن الكاتب يتقصى الحقائق ولا ينقلها دون تحقيق وتدقيق وهذا شئ مهم جدا ويدل على أمانته وحرصه على الدين.
رغم ان الهدف من قراءتي لكتاب ‘الزهراء القدوة’ كان لأجل فهم المشكلة، الا أن هذا الكتاب جعلني أحب الزهراء وأفهمها أكثر، فهو اشراقة حب في درب الزهراء ولمسة نور من نهجها الرفيع. أحسست بنقلة في مستوى الوعي للتاريخ وللحاضر ولقضايا المرأة ولشخصية الزهراء (ع) فاقت اسلوبا وفكرا كل الكتب التي قرأتها عن الزهراء (ع) من قبل. حينها أدركت أن المسألة ليست في كسر الضلع وأن من أنكر ذلك لم يقم بدراسة علمية تحليلية وافية بل كانت انفعالات عاطفية أججت نيران الكراهية وحاصرت أنوار العلم والحوار والسلام مع الأسف الشديد. وقد تشوقت لقراءة المزيد من كتب السيد فقرأت ‘أسلوب الدعوة في القرآن، ووجدت فيه الكثير من الارشادات التي تستند على الآيات القرآنية والتي صارت ملهما ومرشدا لي في هذه الحياة. كذلك استعنت بالموقع الالكتروني لسماحة السيد (بينات) والذي يحتوي الكثير من المعلومات وتفسير القرآن اضافة الى العديد من المحاضرات والخطب.
ومن ضمن محاضرات الفيديو التي شاهدتها محاضرة بعنوان ‘دروس من قصة أصحاب القرية’، حيث أدهشني أسلوب الطرح والتأملات الرائعة وأحسست كأن الكلمات لآلئ تتناثر من قلب السيد رحمه الله. وعندما أصغي لكلام السيد لا أتمالك الا أن أكتب كل ماأسمعه لأن كل كلمة تحمل حبا وعلما وحياة. واليكم نموذجا مما كتبت من كلامه: “الأنسان عندما يتعصب لأية جهة أو فكرة يلتزمها بطريقة عمياء ليس فيها انفتاح على أفكار أخرى، فتتحول حقداً في القلب وجموداً في الحركة”. وأيضا “ليس المطلوب رفض كل ما نرث، لكن علينا أن نفكر فيه حتى تكون قناعتنا به قناعة منطلقة من وعي وفكر”. وفي تفسير الآية “ياحسرة على العباد” قال السيد “أنها كلمة ربانية تتفايض بالمحبة والرحمة الى عباده، يقول لهم اني قريب اليكم”. كذلك ذكر هذه المعادلات الرائعة:
“القلب العقل عندما يعيش الحق في داخله
والقلب القلب عندما تعيش المحبة في داخله
والقلب الحياة عندما تعيش الطاعة في داخله”
وقد قرأت المزيد من كتب السيد، مثل ‘دنيا المرأة’ و ‘دنيا الشباب’ و’في رحاب دعاء الافتتاح’ و ‘فقه الشريعة’ وغيرها. ولايفوتني ذكر تفسيره للقرآن ‘من وحي القرآن’ فهو تفسير فريد يجمع التفسير التجزيئي والموضوعي للقرآن بأسلوب سهل قريب الى الواقع. وقد قدم السيد رحمه الله افكارا ورؤى مميزة حول دور المرأة في الاسلام من خلال كتبه حيث تطرق الى الكثير من المواضيع الهامة المرتبطة بدور المرأة وحقوقها في الأسلام. وبفضل كثرة قراءاتي ومتابعاتي لخطب السيد رحمه الله فقد تطورت نظرتي لأمور الحياة وللتشيع وعلاقتي بأهل البيت (ع). فبعد أن كانت علاقتي بهم عاطفية غالبا صارت علاقة رسالية تركز على شخصيتهم وأخلاقهم ونهجهم الرسالي أكثر مما تركز على شخصهم، وبعد أن كنت أعتقد أن الشيعة هم الفرقة الناجية تيقنت أن المسلم الرسالي المطيع لله ولرسوله بأخلاص هو الناجي فعلا بغض النظر عن المسميات والألقاب. رغم أن هذه الهجمة كانت قاسية جدا على السيد وعلى الجميع الا أنها حملت في طياتها الرحمة حيث زادتني وعيا وزادت الكثيرين انفتاحا وفهما للواقع وأمور الحياة .
في عام ٢٠٠٤ وفقنا الله لزيارة السيدة زينب (ع) في سوريا وحضرنا محاضرة قيمة للسيد فضل الله، لكن مع الأسف لم أتشرف برؤيته مباشرة لأنني كنت في جانب النساء نسمع الصوت فقط. وقبل أن تسنح لي الفرصة لألتقي بهذه الشخصية العظيمة خطفه الموت بسرعة عام ٢٠١٠ مما أثار حزني وحيرتي، فقد كنت أتمنى أن ألتقي به وأستقي من علمه وخبرته ونصائحه القيمة. كان السيد رحمه الله قد طرح فكرة المرجعية المؤسسة والتي تعني استمرار المؤسسة بعد وفاته. وقد دعا السيد الى هذه الفكرة الخلاقة التي لو طبقت في عالمنا الأسلامي لسعد كل الناس وتوحدوا تحت راية مؤسسة تجمع كل الفقهاء ولا تموت بموت الفقيه. عموما استمر تواصلي مع المؤسسة لتحصيل الفتاوى فكنت ارسل الأسئلة من خلال الموقع الألكتروني ويجيبني أحد الشيوخ الكرام. هنا لا بد أن أسجل شكري وامتناني للمسؤولين عن ادارة الموقع الالكتروني بسبب الانتظام والترتيب وعدم اهمال اي رسالة، فحتى لو تأخر الجواب فأنه كان يصلني في النهاية، مما خلق لديّ ثقة كبيرة بالموقع وبالمؤمنين المخلصين المشرفين عليه. بعد بضع سنوات وفي رحلة الحج زرنا مقر حملة السيد رحمه الله والتقينا بأبنه السيد علي فضل الله فأعجبنا بخلقه العظيم وهيبته وتواضعه. وقد أجاب سماحته على جميع أسئلتنا دون ملل، وعندما سألناه عن وصية السيد للشباب فأجاب بكلمتين اثنتين: أكملوا المسيرة. ماأجمل هذه الوصية وماأعظم هاتين الكلمتين اللتين تضمان الكثير من المعاني!.
عندما تمكنّا من التقاط بث قناة الأيمان الفضائية صار بالامكان مشاهدة محاضراته رضوان الله عليه وسماع الادعية بصوته يوميا وصار حاضرا بقوة في بيتنا وحياتنا وقلوبنا. وكان لكلمته الأبوية الشهيرة التي يفتتح بها أحاديثه “أيها الأحبة” أعظم الأثر في نفوسنا، فهي تختزن كل معاني الحب والرحمة والحنان والعطاء والخير التي يضمها قلبه الكبير، وهي تؤكد حرصه على توجيه الناس الى طريق الخير والعزة والأستقامة. ومن الأمور التي تدهشني دائما أن السيد رحمه الله قدّم الكثير خلال سنواته الخمس والسبعين وتطرق الى كل الامور التي تخص الدين والدنيا من خلال محاضرات رائعة في تفسير القرآن ومناقشة قضايا الاجتماع والسياسة والاخلاق والتربية والعقائد وشرح الأدعية وارشادات ووصايا أبوية حميمة، فكيف تسنى له أن يقدم كل هذه الثروة العلمية في ذلك الوقت المحدود!
وقد وفقني الله لزيارة مسجد الحسنين ومسجد الرضا (ع) والمكتب الشرعي الأسلامي وجمعية التآخي والمبرات والمكتبة الثقافية وغيرها من المؤسسات التي هي ثمرة جهاد السيد رحمه الله وحرصه على خدمة الناس لأن ذلك قمة العبادة. في كل مرة زرت فيها المكتب الشرعي كنت أجد روح السيد رحمه الله في تلامذته الأفاضل، وفي كل مرة زرت فيها مسجد الحسنين كنت أشعر أنه ليس مكانا للصلاة فقط، بل يحتوي على الكثير من الخدمات الأخرى، مثل قاعة المحاضرات والمكتبة الثقافية وقاعات الندوات والمتحف وغرف الأدارة، اضافة الى الكثير من الفضاءات الواسعة التي تساعد على التأمل والعبادة كأفراد وكجماعات. وقد ذكرني ذلك بمسجد الرسول الأعظم (ص) في المدينة حيث كان المسجد في زمن الرسول مركزا دينيا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا في نفس الوقت. وقد راعني مقدار الحب الذي يكنّه الناس للسيد رحمه الله، فكلما ذكر السيد تهيج القلوب بالشوق والحب والحسرات وتفيض العيون بالدمع.
السلام عليك ياسيدنا ويا أبانا فضل الله يوم ولدت ويوم عرجت روحك الطاهرة الى عالم الخلود الأبدي ويوم تبعث حيا. لقد كنت ولازلت حيا في قلوبنا وعقولنا فلم نشعر ولن نشعر بأنك غائب عنا، ففكرك وعلمك يعطينا الأمل ويساعدنا على ايجاد المخرج من مشاكلنا ويدلنا على منابع النور في مسالك هذه الحياة الموحشة والمظلمة، وقد صرت بمثابة الأب الثاني لنا جميعا. نعدك ياسيدنا أن نحمل الاسلام في قلوبنا ما حيينا ونكمل المسيرة بأذن الله تعالى.
قد يتساءل البعض لماذا كتبتُ هذه القصة؟ الجواب من خلال النقاط التالية:
اولا: انه نوع من الاعتراف بالجميل والتقدير لعالم ربّاني قدّم الكثير للأسلام والمسلمين ووهب نفسه وحياته لخدمة الله تعالى ولا زال القائد الذي يرفدنا بالعلم وكل ما نحتاج اليه من ارشادات.
ثانيا: في الذكرى العاشرة لرحيله الى الخلود الأبدي ينبغي تثمين وجوده الفعال في حياتنا وحياة المسلمين والناس جميعا، من خلال كتبه ومحاضراته وتسجيلاته ومؤسساته وغير ذلك.
ثالثاً: أحببت أن أوصل رسالة لكل من يقف موقفا سلبيا من السيد بأن لا يصدق كل ما سمعه وليحاول أن يفهم السيد ويقرأ كتبه حتى ينصفه ولا يظلمه.
رابعاً: في ظل مساعي اعداء الأمة للتفريق بين الناس على اساس المذهب او الدين او غير ذلك، يصبح من الضروري استذكار السيد فضل الله ونهجه المعتدل المنفتح على الآخرين.
خامسا: أسهم السيد رحمه الله اسهاما كبيرا في تقديم صورة الاسلام الاصيل، وكشف الكثير من البدع التي شوّهت الدين وقسمت المسلمين الى طوائف. وقد نقّى التشيع مما علق به من تحريفات ليست من الدين في شئ، فأزال الغشاوة عن عيون الكثير ممن كانوا يعتقدون ان هذه الامور من الدين ولذلك يستحق ان نذكره ونعي فكره ونهجه الذي هو نهج الاسلام.
سادسا: قدم السيد رؤى وارشادات فيما يتعلق بحقوق المرأة لم يتطرق اليها الا القليل ممن سبقه. ونحن في اشد الحاجة الى هذه الامور في ظل هجمة اعداء الاسلام واستغلالهم ذلك لتشويه صورة الاسلام، فأثبت السيد ان الظلم هو من المسلمين وليس من الاسلام.
سابعا: أكد السيد فضل الله على ضرورة الوحدة الاسلامية، كما هو حال العديد من العلماء الواعين ممن سبقوه. وبتركيزه على هذا الموضوع لم يرد أن يجامل أحداً، انما كان هدفه الأول والأخير رضا الله تعالى. اضافة الى الوحدة الاسلامية أكد على الوحدة الانسانية والمحبة لكل البش، فما احوجنا الى هذا النهج العلمي الواعي الملئ بالمحبة والخير والرحمة للجميع.
وبعد، فهذا شيء يسير من فكر السيد وارشاداته، لا يسع المقام هنا لذكر كل شئ. وكما قال السيد في احدى محاضراته أن الرسالة لا تموت بموت الرسول، لذلك فرسالة نبينا الأكرم محمد (ص) باقية مدى الدهر مادام هناك أناس مثل فضل الله وغيره من العلماء الواعين يحمونها بأرواحهم وبكل مايستطيعون. الهي أحمدك حمدا وافرا على أن هديتنا لمعرفتك وعلى نعمة الأسلام ونعمة الرسول العظيم (ص) ونعمة وجود علماء كالسيد رحمه الله يرشدوننا الى نهج الله ونهج رسوله الكريم.
بقلم الدكتورة إيمان العطار
#محرك_السكون
#السيد_فضل_الله