– تمر علينا هذه الأيام ذكرى المباهلة وهي مناسبة أسلامية مهمة وردت في القرآن الكريم في الآية 61 من سورة آل عمران: “فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين”
– ففي الرابع والعشرين من ذي الحجة (كما يروى) خرج الرسول (ص) ومعه أهل بيته (الأمام علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام) امتثالا للأمر الألهي الذي جاء في الآية المباركة. وقد خرجوا لمباهلة مجموعة من رهبان النصارى في منطقة نجران في الحجاز. هؤلاء الرهبان أنكروا نبوة الرسول الأكرم وأرادوا اثباتا على ذلك، فجاء الأمر الألهي بأن يخرج الرسول مع خيرة الناس وأقربهم الى عقل وقلب النبي (ص) ليلتقي مع الرهبان ويتضرعوا الى الله بأن يلعن الكاذب منهم. لكنهم حين رأوا هيبة الرسول وأهل بيته خافوا وأيقنوا أن اللعنة ستحل عليهم فانسحبوا قبل الأبتهال، وهذا نصر للأسلام واعزاز للرسول وتبيان لمنزلة أهل بيته الأطهار. فما هي المباهلة وما مدلولاتها؟
– لغويا: البُهل كاللعن، وهو المباعدة عن رحمة الله عقابا على معصيته، وقوم تباهلوا، أي تلاعنوا. والأبتهال فيه معنيان، اما الألتعان (أي الدعاء بالبعد عن رحمة الله) أو الدعاء بالهلاك
– لكن لماذا أمر الله النبي باخراج الأبناء والنساء والأنفس؟ حتى يدرك الطرف المقابل أن الأمر جدّي، فعندما يخرج الأنسان بأعز الناس عليه فذلك يدل أنه واثق من النصر. فالأبناء (الحسن والحسين) يجسدون أعمق علاقة حميمة يعيشها الأنسان بحيث تتصل حياته بامتداد حياتهم، وكل شعوره بالمحبة وكل أمله بمستقبل الرسالة. والنساء (فاطمة) يمثلن أقرب موقع للأنتماء الأنساني الروحي في الحياة الخاصة، ففاطمة تمثل كل النساء المسلمات الطاهرات. والأنفس (علي) من لهم وقع في النفس من حيث المنزلة والمحبة، وعلي يمثل الصورة الصادقة لكمالات رسول الله، لأنه رباه فهو على صورته في أخلاقه وروحيته وأقواله
– هذه القصة، كما يقول السيد محمد حسين فضل الله (قده)١، تجسد أسلوب الأسلام في الحوار وهو الحوار الهادئ القوي، وتعرفنا مبلغ التسامح الأسلامي من مركز القوة. وقد أورد سماحته بعض دلالات هذه الحادثة والنقاط المثارة حولها، نذكرها باختصار كالآتي:
أولا: تدل هذه الحادثة على استواء النسب من جهة الولد والبنت، وتؤيد ذلك الآية المباركة: “ووهبنا له اسحق ويعقوب كلا هدينا، ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين، وزكريا وعيسى والياس كل من الصالحين” الأنعام 84-85. فقد اعتبر القرآن عيسى (ع) من ذرية ابراهيم مع أنه يرتبط به من خلال أمه مريم
– ثانيا: أثاروا علامة استفهام حول صيغة الجمع التي لا تصدق الا على مازاد على اثنين: أن القيمة التكوينية المميزة من خلال تطبيق الجمع على هؤلاء واقتصاره عليهم في الوقت الذي يمكن للكلمة أن تنطبق على أكثر من ذلك، فالآية تأتي بصيغة الجمع لتأكيد المبدأ العام الشامل لكل الأفراد من حيث القاعدة، مع أن المصداق واحد. وهناك أمثلة قرآنية تؤكد هذا المعنى:
“الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم أيمانا” آل عمران 17. ذكر المفسرون أنه كان هناك شخص واحد يخوف المسلمين من المشركين بهذه الكلمات، وهو نسيم بن مسعود. كذلك الآية الكريمة “لقد سمع الله قول الذين قالوا ان الله فقير ونحن أغنياء” آل عمران 181. هذه المقولة قالها شخص واحد وهو حيي بن أخطب، لكن صار قول الجماعة باعتبار أن اليهود الآخرين يتفقون معه في هذا القول أو يرضون به، مايجعل قوله قولهم. فالمسألة لاتقتصر على شخص واحد بل تتعداه من خلال الذهنية المشتركة بينه وبين فريقه، الى الفريق كله
– ثالثا: أثاروا علامة استفهام حول البلوغ وكمال العقل: قالوا أن كمال العقل والبلوغ شرط للمباهلة. لكن الحسن والحسين كاملان وبالغان، فسنهما لا يمنع أن يكونا كاملي العقل، فيجوز أن يخرق الله العادات للأئمة ويخصهم بما لا يشرك فيه غيرهم. كذلك فأن الحديث حول البلوغ وكمال العقل كشرط للمباهلة يتوقف على أن يكون الحسنان (ع) طرفين مستقلين في المباهلة، ولكنهما لم يكونا مستقلين بل كانا جزءا منها
– أخيرا: النبي عرّض نفسه مع أعز الناس عليه للخطر الآتي من النتائج السلبية من المباهلة بهلاك الكاذب، فهل نحن مستعدون للتضحية بكل غال ونفيس لأعزاز الحق وأزهاق الباطل؟
١. تفسير من وحي القرآن: سورة آل عمران من الآية ٦١ الى الآية ٦٣ http://arabic.bayynat.org.lb/HtmlSecondary.aspx?id=5930
بقلم الدكتورة إيمان العطار